فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


سورة العنكبوت

مكية وهي تسع وستون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ‏}‏ الحسبان قوة أحد النقيضين على الآخر كالظن بخلاف الشك فهو الوقوف بينهما، والعلم فهو القطع على أحدهما، ولا يصح تعليقهما بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل‏.‏ فلو قلت «حسبت زيداً وظننت الفرس» لم يكن شيئاً حتى تقول «حسبت زيداً عالماً وظننت الفرس جواداً» لأن قولك «زيد عالم والفرس جواد» كلام دال على مضمون، فإذا أردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتاً عندك على وجه الظن لا اليقين أدخلت على شطري الجملة فعل الحسبان حتى يتم لك غرضك والكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان هنا ‏{‏أن يتركوا أن يقولوا امنا وهم لا يفتنون‏}‏ وذلك أن تقديره‏:‏ أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا‏؟‏ فالترك أول مفعولي حسب ولقولهم ‏{‏آمنا‏}‏ هو الخبر، وأما غير مفتونين فتتمة الترك لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير كقول عنترة‏:‏

فتركنه جزر السباع ينشنه *** ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول «تركهم غير مفتونين» لقولهم «آمناً» على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام وهو استفهام توبيخ‏.‏ والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء وسائر الطاعات الشاقة وهجر الشهوات وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم‏.‏ وروي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين، أو في عمار بن يا سر وكان يعذب في الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏(‏3‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏4‏)‏ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا‏}‏ اختبرنا وهو موصول ب ‏{‏أحسب‏}‏ أو ب ‏{‏لا يفتنون‏}‏ ‏{‏الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ بأنواع الفتن فمنهم من يوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ومنهم من يمشط بأمشاط الحديد ما يصرفه ذلك عن دينه ‏{‏فَلَيَعْلَمَنَّ الله‏}‏ بالامتحان ‏{‏الذين صَدَقُوا‏}‏ في الإيمان ‏{‏وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين‏}‏ فيه‏.‏ ومعنى علمه تعالى وهو عالم بذلك فيما لم يزل أن يعلمه موجوداً عند وجوده كما علمه قبل وجوده أنه يوجد، والمعنى وليتميزن الصادق منهم من الكاذب‏.‏ قال ابن عطاء‏:‏ يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الرخاء وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين ‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات‏}‏ أي الشرك والمعاصي ‏{‏أَن يَسْبِقُونَا‏}‏ أي يفوتونا يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة، واشتمال صلة «أن» على مسند ومسند إليه سد مسد مفعولين كقوله ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر و«أم» منقطعة، ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه‏.‏ وقالوا‏:‏ الأول في المؤمنين وهذا في الكافرين ‏{‏سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ «ما» في موضع رفع على معنى ساء الحكم حكمهم، أو نصب على معنى ساء حكماً يحكمون، والمخصوص بالذم محذوف أي بئس حكماً يحكمونه حكمهم ‏{‏مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله‏}‏ أي يأمل ثوابه أو يخاف حسابه فالرجاء يحتملها ‏{‏فَإِنَّ أَجَلَ الله‏}‏ المضروب للثواب والعقاب ‏{‏لأَتٍ‏}‏ لا محالة فليبادر للعمل الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لما يقوله عباده ‏{‏العليم‏}‏ بما يفعلونه فلا يفوته شيء ما‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ و«من» للشرط ويرتفع بالابتداء وجواب الشرط ‏{‏فإن أجل الله لات‏}‏ كقولك «إن كان زيد في الدار فقد صدق الوعد»

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن جَاهَدَ‏}‏ نفسه بالصبر على طاعة الله أو الشيطان بدفع وساوسه أو الكفار ‏{‏فَإِنَّمَا يجاهد لِنَفْسِهِ‏}‏ لأن منفعة ذلك ترجع إليها ‏{‏إِنَّ الله لَغَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏ وعن طاعتهم ومجاهدتهم، وإنما أمر ونهى رحمة لعباده ‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ‏}‏ أي الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام‏.‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً‏}‏ وصى حكمه حكم أمر في معناه وتصرفه‏.‏ يقال‏:‏ وصيت زيداً بأن يفعل خيراً كما تقول‏:‏ أمرته بأن يفعل‏.‏ ومنه قوله ‏{‏ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏ أي وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها، وقولك‏:‏ وصيت زيداً بعمرو معناه وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك‏.‏ وكذلك معنى قوله ‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه حسناً‏}‏ ووصيناه بإيتاء والديه حسناً أو بإيلاء والديه حسناً أي فعلاً ذا حسن، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه كقوله ‏{‏وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏ ويجوز أن يجعل ‏{‏حسناً‏}‏ من باب قولك «زيداً» بإضمار «اضرب» إذا رأيته متهيئاً للضرب فتنصبه بإضمار أولهما، أو افعل بهما لأن التوصية بهما دالة عليه وما بعده مطابق له كأنه قال‏:‏ قلنا أولهما معروفاً ولا تطعهما في الشرك إذا حملاك عليه، وعلى هذا التفسير إن وقف على ‏{‏بوالديه‏}‏ وابتدئ ‏{‏حسناً‏}‏ حسن الوقف، وعلى التفسير الأول لا بد من إضمار القول معناه وقلنا ‏{‏وَإِن جاهداك‏}‏ أيها الإنسان ‏{‏لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ أي لا علم لك بإلهيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال‏:‏ لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً ‏{‏فَلاَ تُطِعْهُمَا‏}‏ في ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ‏{‏إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ مرجع من آمن منكم ومن أشرك ‏{‏فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ فأجازيكم حق جزائكم، وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك وحث على الثبات والاستقامة في الدين‏.‏ روي أن سعد بن أبي وقاص لما أسلم نذرت أمه أن لا تأكل ولا تشرب حتى يرتد فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، والتي في «لقمان» والتي في «الأحقاف»

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ‏(‏9‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ هو مبتدأ والخبر ‏{‏لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصالحين‏}‏ في جملتهم‏.‏ والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين وهو متمنى الأنبياء عليهم السلام قال سليمان عليه السلام ‏{‏وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 19‏]‏ وقال يوسف عليه السلام ‏{‏تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين‏}‏ أ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏ وفي مدخل الصالحين وهو الجنة‏.‏

ونزلت في المنافقين ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله‏}‏ أي إذا مسه أذى من الكفار ‏{‏جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله‏}‏ أي جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله تعالى ‏{‏وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ‏}‏ أي وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا‏:‏ إنا كنا معكم أي متابعين لكم في دينكم ثابتين عليه بثباتكم فأعطونا نصيبنا من الغنم ‏{‏أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ العالمين‏}‏ أي هو أعلم بما في صدور العالمين من العالمين بما في صدورهم ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق وما في صدور المؤمنين من الإخلاص، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين بقوله

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ‏(‏11‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين ءامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين‏}‏ أي حالهما ظاهرة عند من يملك الجزاء عليهما ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم‏}‏ أمروهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم‏.‏ والمعنى تعليق الحمل بالاتباع أي إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم، وهذا قول صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم‏:‏ لا نبعث نحن ولا أنتم، فإن كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم ‏{‏وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَئ إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ‏}‏ أي أثقال أنفسهم يعني أوزارهم بسبب كفرهم ‏{‏وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ أي أثقالاً أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم وهو كما قال ‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ يختلقون من الأكاذيب والأباطيل‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً‏}‏ كان عمره ألفاً وخمسين سنة؛ بعث على رأس أربعين ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين‏.‏ وعن وهب أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة فقال له ملك الموت‏:‏ يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا‏؟‏ قال‏:‏ كدار لها بابان دخلت وخرجت‏.‏ ولم يقل تسعمائة وخمسين سنة لأنه لو قيل كذلك لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل هنا فكأنه قيل‏:‏ تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة، ولأن القصة سيقت لما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لنبينا عليه السلام فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض‏.‏ وجيء بالمميز أولاً بالسنة ثم بالعام، لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة ‏{‏فَأَخَذَهُمُ الطوفان‏}‏ هو ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما ‏{‏وَهُمْ ظالمون‏}‏ أنفسهم بالكفر

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ ‏(‏15‏)‏ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏فأنجيناه‏}‏ أي نوحاً ‏{‏وأصحاب السفينة‏}‏ وكانوا ثمانية وسبعين نفساً نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم ‏{‏وجعلناها‏}‏ أي السفينة أو الحادثة أو القصة ‏{‏ءايَةً‏}‏ عبرة وعظة ‏{‏للعالمين‏}‏ يتعظون بها‏.‏

‏{‏وإبراهيم‏}‏ نصب بإضمار اذكر وأبدل عنه ‏{‏إِذْ قَالَ‏}‏ بدل اشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها، أو معطوف على ‏{‏نوح‏}‏ أي وأرسلنا إبراهيم، أو ظرف ل ‏{‏أرسلنا‏}‏ يعني أرسلناه حين بلغ من السن، أو العلم مبلغاً صلح فيه لأن يعظ قومه ويأمرهم بالعبادة والتقوى‏.‏ وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما‏:‏ ‏{‏وإبراهيمُ‏}‏ بالرفع على معنى «ومن المرسلين إبراهيم» ‏{‏لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من الكفر ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ إن كان لكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم ‏{‏إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا‏}‏ أصناماً ‏{‏وَتَخْلُقُونَ‏}‏ وتكذبون أو تصنعون‏.‏ وقرأ أبو حنيفة والسلمي رضي الله عنهما ‏{‏وتخلّقون‏}‏ من خلق بمعنى التكثير في خلق ‏{‏إِفْكاً‏}‏ وقرئ ‏{‏أفكا‏}‏ وهو مصدر نحو كذب ولعب‏.‏ والإفك مخفف منه كالكذب واللعب من أصلهما واختلاقهم الإفك تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله ‏{‏إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً‏}‏ لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق ‏{‏فابتغوا عِندَ الله الرزق‏}‏ كله فإنه هو الرازق وحده لا يرزق غيره ‏{‏واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه، وبفتح التاء وكسر الجيم‏:‏ يعقوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ أي وإن تكذبوني فلا تضروني بتكذيبكم فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم وما ضروهم وإنما ضروا أنفسهم حيث حل بهم العذاب بسبب تكذيبهم، وأما الرسول فقد تم أمره حيث بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشك وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته، أو وإن كنت مكذباً فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة حيث كذبوا وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب‏.‏ وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله ‏{‏فما كان جواب قومه‏}‏ محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه، والمراد بالأمم قبله قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم‏.‏ وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش بين أول قصة إبراهيم وآخرها‏.‏ فإن قلت‏:‏ فالجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه فلا تقول «مكة وزيد قائم خير بلاد الله»‏.‏ قلت‏:‏ نعم وبيانه أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون مسلاة له بأن أباه إبراهيم عليه السلام كان مبتلى بنحو ما ابتلى به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان، فاعترض بقوله ‏{‏وإن تكذبوا‏}‏ على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمداً فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها لأن قوله ‏{‏فقد كذب أمم من قبلكم‏}‏ لا بد من تناوله لأمة إبراهيم وهو كما ترى اعتراض متصل، ثم سائر الآيات بعدها من توابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله وهدم الشرك وتوهين قواعده وصفة قدرة الله تعالى وسلطانه ووضوح حجته وبرهانه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏19‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ وبالتاء‏:‏ كوفي غير حفص ‏{‏كَيْفَ يُبْدِئ الله الخلق‏}‏ أي قد رأوا ذلك وعلموه‏.‏ وقوله ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ ليس بمعطوف على ‏{‏يبدئ‏}‏ وليست الرؤية واقعة عليه وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت كما وقع النظر في قوله ‏{‏كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِئ النشأة الآخرة‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 20‏]‏ على البدء دون الإنشاء بل هو معطوف على جملة قوله ‏{‏أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق‏}‏ ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ أي الإعادة ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ سهل ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره وأوحينا إليه أن قل ‏{‏سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق‏}‏ على كثرتهم واختلاف أحوالهم لتعرفوا عجائب فطرة الله بالمشاهدة، وبدأ وأبدأ بمعنى ‏{‏ثُمَّ الله يُنشِئ النشأة الآخرة‏}‏ أي البعث‏.‏ وبالمد حيث كان‏:‏ مكي وأبو عمرو‏.‏ وهذا دليل على أنهما نشأتان وأن كل واحدة منهما إنشاء أي ابتداء واختراع وإخراج من العدم إلى الوجود، غير أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله والأولى ليست كذلك، والقياس أن يقال «كيف بدأ الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة» لأن الكلام معهم وقع في الإعادة، فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب أن لا يعجزه الإعادة فكأنه قال‏:‏ ثم ذلك الذي أنشأ النشأة الأولى ينشيء النشأة الآخرة، فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ قادر ‏{‏يُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ بالخذلان ‏{‏وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء‏}‏ بالهداية أو بالحرص والقناعة، أو بسوء الخلق وحسنه، أو بالإعراض عن الله وبالإقبال عليه، أو بمتابعة البدع وبملازمة السنة ‏{‏وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ‏}‏ تردون وترجعون ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه ‏{‏فِى الأرض‏}‏ الفسيحة ‏{‏وَلاَ فِى السماء‏}‏ التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها ‏{‏وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ‏}‏ يتولى أموركم ‏{‏وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ ولا ناصر يمنعكم من عذابي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏23‏)‏ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏24‏)‏ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ بئايات الله‏}‏ بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ‏{‏وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى‏}‏ جنتي ‏{‏وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ‏}‏ قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الإيمان ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرّقُوهُ‏}‏ قال بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين فكانوا جميعاً في حكم القائلين فاتفقوا على تحريقه ‏{‏فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار‏}‏ حين قذفوه فيها ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ فيما فعلوا به وفعلنا ‏{‏لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ روي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار يعني يوم ألقي إبراهيم في النار وذلك لذهاب حرها ‏{‏وَقَالَ‏}‏ إبراهيم لقومه ‏{‏إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا‏}‏ حمزة وحفص، ‏{‏مودةً بينكم‏}‏ مدني وشامي وحماد ويحيي وخلف ‏{‏مودة بينكم‏}‏ مكي وبصري وعلي، ‏{‏مودةٌ بينكم‏}‏ الشمني والبرجمي، النصب على وجهين على التعليل أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وأن يكون مفعولاً ثانياً كقوله ‏{‏اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ و«ما» كافة أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم على تقدير حذف المضاف، أو اتخذتموها مودة بينكم أي مودة بينكم كقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ وفي الرفع وجهان‏:‏ أن يكون خبراً ل ‏{‏إن‏}‏ و«ما» موصولة، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة ‏{‏بينكم‏}‏، والمعنى أن الأوثان مودة بينكم أي مودودة أو سبب مودة‏.‏ ومن أضاف المودة جعل بينكم اسماً لا ظرفاً كقوله ‏{‏شهادة بَيْنِكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 106‏]‏ ومن نوّن ‏{‏مودة‏}‏ ونصب ‏{‏بينكم‏}‏ فعلى الظرف ‏{‏ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ تتبرأ الأصنام من عابديها ‏{‏وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً‏}‏ أي يوم القيامة يقوم بينكم التلاعن فيلعن الأتباع القادة‏.‏ ‏{‏وَمَأْوَاكُمُ النار‏}‏ أي مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع ‏{‏وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين‏}‏ ثمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏26‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏فَئَامَنَ لَهُ‏}‏ لإبراهيم عليه السلام ‏{‏لُوطٌ‏}‏ هو ابن أخي إبراهيم وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه ‏{‏وَقَالَ‏}‏ إبراهيم ‏{‏إِنّى مُهَاجِرٌ‏}‏ من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين وهي من برية الشام، ومن ثم قالوا‏:‏ لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان‏.‏ وكان معه في هجرته لوط وسارة وقد تزوجها إبراهيم ‏{‏إلى رَبّى‏}‏ إلى حيث أمرني ربي بالهجرة إليه ‏{‏إِنَّهُ هُوَ العزيز‏}‏ الذي يمنعني من أعدائي ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي لا يأمرني إلا بما هو خير ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق‏}‏ ولداً ‏{‏وَيَعْقُوبَ‏}‏ ولد ولد ولم يذكر إسماعيل لشهرته ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة‏}‏ أي في ذرية إبراهيم فإنه شجرة الأنبياء ‏{‏والكتاب‏}‏ والمراد به الجنس يعني التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ‏{‏وَءاتَيْنَاهُ‏}‏ أي إبراهيم ‏{‏أَجْرُهُ‏}‏ الثناء الحسن والصلاة عليه إلى آخر الدهر ومحبة أهل الملل له، أو هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لغيره ‏{‏فِى الدنيا‏}‏ فيه دليل على أنه تعالى قد يعطي الأجر في الدنيا ‏{‏وَإِنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصالحين‏}‏ أي من أهل الجنة‏:‏ عن الحسن ‏{‏وَلُوطاً‏}‏ أي واذكر لوطاً ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ الفعلة البالغة في القبح وهي اللواطة ‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين‏}‏ جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة كأن قائلاً قال‏:‏ لم كانت فاحشة‏؟‏ فقيل‏:‏ لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها، قالوا‏:‏ لم ينزل ذكر على ذكر قبل قوم لوط

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏30‏)‏ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل‏}‏ بالقتل وأخذ المال كما هو عمل قطاع الطريق، وقيل‏:‏ اعتراضهم السابلة بالفاحشة ‏{‏وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ‏}‏ مجلسكم ولا يقال للمجلس نادٍ إلا ما دام فيه أهله ‏{‏المنكر‏}‏ أي المضارطة والمجامعة والسباب والفحش في المزاح والحذف بالحصى ومضغ العلك والفرقعة والسواك بين الناس ‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ فيما تعدنا من نزول العذاب‏.‏ ‏{‏إنكم‏}‏ ‏{‏أئنكم‏}‏ شامي وحفص وهو الموجود في الإمام، وكل واحدة بهمزتين كوفي غير حفص ‏{‏آينكم‏}‏ ‏{‏آينكم‏}‏ بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة‏:‏ أبو عمرو ‏{‏أينكم‏}‏ ‏{‏أينكم‏}‏ بهمزة مقصورة بعدها ياء مكسورة‏:‏ مكي ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد ‏{‏قَالَ رَبّ انصرنى‏}‏ بإنزال العذاب ‏{‏عَلَى القوم المفسدين‏}‏ كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى‏}‏ بالبشارة لإبراهيم بالولد والنافلة يعني إسحق ويعقوب ‏{‏قَالُواْ إِنَّآ مُهْلِكُو أَهْلِ هذه القرية‏}‏ إضافة ‏{‏مهلكوا‏}‏ لم تفد تعريفاً لأنها بمعنى الاستقبال‏.‏ والقرية سدوم التي قبل فيها أجور من قاضي سدوم وهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام‏.‏ قالوا‏:‏ إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم عليه السلام‏.‏ ‏{‏إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظالمين‏}‏ أي الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة وهم عليه مصرون وظلمهم كفرهم وأنواع معاصيهم

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏34‏)‏ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ إبراهيم ‏{‏إِنَّ فِيهَا لُوطاً‏}‏ أي أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم وهو لوط ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الملائكة ‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ‏}‏ منك ‏{‏بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ‏}‏ ‏{‏لننجينه‏}‏ يعقوب وكوفي غير عاصم ‏{‏وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين‏}‏ الباقين في العذاب‏.‏ ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم بقوله ‏{‏وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِئ بِهِمْ‏}‏ ساءه مجيئهم و«أن» صلة أكدت وجود الفعلين مرتباً أحدهما على الآخر كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل‏:‏ كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث خيفة عليهم من قومهم أن يتناولوهم بالفجور ‏{‏سِئ بِهِمْ‏}‏ مدني وشامي وعلي ‏{‏وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا‏}‏ وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته، وقد جعلوا ضيق الذرع والذراع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا «رحب الذراع» إذا كان مطيقاً، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلاً في العجز والقدرة وهو نصب على التمييز ‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ‏}‏ وبالتخفيف‏:‏ مكي وكوفي غير حفص ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ الكاف في محل الجر ونصب ‏{‏أهلك‏}‏ بفعل محذوف أي وننجي أهلك ‏{‏إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين إِنَّا مُنزِلُونَ‏}‏ ‏{‏منزلّون‏}‏ شامي ‏{‏على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً‏}‏ عذاباً ‏{‏مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ بفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله ‏{‏وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا‏}‏ من القرية ‏{‏آيةً بَيّنَةً‏}‏ هي آثار منازلهم الخربة‏.‏ وقيل‏:‏ الماء الأسود على وجه الأرض ‏{‏لِقَوْمٍ‏}‏ يتعلق ب ‏{‏تركنا‏}‏ أو ب ‏{‏بينة‏}‏ ‏{‏يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏36‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏37‏)‏ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ‏(‏38‏)‏ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ‏(‏39‏)‏ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى مَدْيَنَ‏}‏ وأرسلنا إلى مدين ‏{‏أخاهم شُعَيْباً فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر‏}‏ وافعلوا ما ترجون به الثواب في العاقبة أو خافوه ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ‏}‏ قاصدين الفساد ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ الزلزلة الشديدة أو صيحة جبريل عليه السلام لأن القلوب رجفت بها ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ‏}‏ في بلدهم وأرضهم ‏{‏جاثمين‏}‏ باركين على الركب ميتين ‏{‏وَعَاداً‏}‏ منصوب بإضمار «أهلكنا» لأن قوله ‏{‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ يدل عليه لأنه في معنى الإهلاك ‏{‏وَثَمُودَاْ‏}‏ حمزة وحفص وسهل ويعقوب ‏{‏وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم‏}‏ ذلك يعني ما وصفه من إهلاكهم ‏{‏مّن مساكنهم‏}‏ من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها ‏{‏وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم‏}‏ من الكفر والمعاصي ‏{‏فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل‏}‏ السبيل الذي أمروا بسلوكه هو الإيمان بالله ورسله ‏{‏وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ‏}‏ عقلاء متمكنين من النظر وتمييز الحق من الباطل ولكنهم لم يفعلوا ‏{‏وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان‏}‏ أي وأهلكناهم ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِى الأرض وَمَا كَانُواْ سابقين‏}‏ فائتين أدركهم أمر الله فلم يفوتوه ‏{‏فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ‏}‏ فيه رد على من يجوز العقوبة بغير ذنب ‏{‏فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً‏}‏ هي ريح عاصف فيها حصباء وهي لقوم لوط ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة‏}‏ هي لمدين وثمود ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض‏}‏ يعني قارون ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا‏}‏ يعني قوم نوح وفرعون ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ‏}‏ ليعاقبهم بغير ذنب ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالكفر والطغيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء‏}‏ أي آلهة يعني مثل من أشرك بالله الأوثان في الضعف وسوء الاختيار ‏{‏كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً‏}‏ أي كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت فإن ذلك بيت لا يدفع عنها الحر والبرد ولا يقي ما تقي البيوت، فكذلك الأوثان لا تنفعهم في الدنيا والآخرة، جعل حاتم ‏{‏اتخذت‏}‏ حالاً ‏{‏وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت‏}‏ لا بيت أوهن من بيتها‏.‏ عن عليّ رضي الله عنه‏:‏ طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الآية مثل الشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل يبنى بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ في جماعة تقدير الآية‏:‏ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء لو كانوا يعلمون كمثل العنكبوت ‏{‏إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ‏}‏ بالياء‏:‏ بصري وعاصم، وبالتاء‏:‏ غيرهما غير الأعشى والبرجمي‏.‏ و«ما» بمعنى «الذي» وهو مفعول ‏{‏يعلم‏}‏ ومفعول ‏{‏يدعون‏}‏ مضمر أي يدعونه يعني يعبدونه ‏{‏مِن دُونِهِ مِن شَئ‏}‏ «من» في ‏{‏من شيء‏}‏ للتبيين ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ الغالب الذي لا شريك له ‏{‏الحكيم‏}‏ في ترك المعاجلة بالعقوبة، وفيه تجهيل لهم حيث عبدوا جماداً لا علم له ولا قدرة وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء الحكيم الذي لا يفعل كل شيء إلا بحكمة وتدبير

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏44‏)‏ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَتِلْكَ الأمثال‏}‏ الأمثال نعت والخبر ‏{‏نَضْرِبُهَا‏}‏ نبينها ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ كان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون‏:‏ إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك فلذلك قال ‏{‏وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون‏}‏ به وبأسمائه وصفاته أي لا يعقل صحتها وحسنها ولا يفهم فائدتها إلا هم، لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المستورة حتى تبرزها وتصورها للأفهام كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» ودلت الآية على فضل العلم على العقل‏.‏

‏{‏خَلَقَ الله السموات والأرض بالحق‏}‏ أي محقاً يعني لم يخلقهما باطلاً بل لحكمة وهي أن تكونا مساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم ودلائل على عظم قدرته، ألا ترى إلى قوله ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وخصهم بالذكر لانتفاعهم بها ‏{‏اتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب‏}‏ تقرباً إلى الله تعالى بقراءة كلامه ولتقف على ما أمر به ونهى عنه ‏{‏وأقم الصلاة‏}‏ أي دم على إقامة الصلاة ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء‏}‏ الفعلة القبيحة كالزنا مثلاً ‏{‏والمنكر‏}‏ هو ما ينكره الشرع والعقل‏.‏ قيل‏:‏ من كان مراعياً للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما فقد روي أنه قيل يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل‏.‏ فقال‏:‏ «إن صلاته لتردعه» روي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب‏.‏ وقال ابن عوف‏:‏ إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر‏.‏ وعن الحسن‏:‏ من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست صلاته بصلاة وهي وبال عليه ‏{‏وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ‏}‏ أي والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وإنما قال ‏(‏ولذكر الله‏)‏ ليستقل بالتعليل كأنه قال‏:‏ والصلاة أكبر لأنها ذكر الله‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له الآن، لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى وذكركم لا يبقى‏.‏ وقال سلمان‏:‏ ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل فقد قال عليه السلام «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» قالوا وما ذاك يا رسول الله قال «ذكر الله» وسئل أي الأعمال أفضل قال «أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله» أو ذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم، أو ذكر الله أكبر من تلقى معه معصية، أو ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من غيره‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ‏}‏ من الخير والطاعة فيثيبكم أحسن الثواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ بالخصلة التي هي أحسن للثواب وهي مقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم كما قال‏:‏ ‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 96‏]‏ ‏{‏إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ‏}‏ فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة‏.‏ وقيل‏:‏ إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا ‏{‏يد الله مغلولة‏}‏ أو معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فمجادلتهم بالسيف‏.‏ والآية تدل على جواز المناظرة مع الكفرة في الدين، وعلى جواز تعلم علم الكلام الذي به تتحقق المجادلة، وقوله ‏{‏وَقُولُواْ ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ من جنس المجادلة بالأحسن‏.‏ وقال عليه السلام ‏"‏ ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان باطلاً لم تصدقوهم وإن كان حقاً لم تكذبوهم» ‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏48‏)‏ بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك الإنزال ‏{‏أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب‏}‏ أي أنزلناه مصدقاً لسائر الكتب السماوية، أو كما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب ‏{‏فالذين ءاتيناهم الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ هم عبد الله بن سلام ومن معه ‏{‏وَمِنْ هَؤُلاء‏}‏ أي من أهل مكة ‏{‏مَن يُؤْمِنُ‏}‏ أو أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ومن هؤلاء الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا‏}‏ مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ‏{‏إِلاَّ الكافرون‏}‏ إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه ككعب بن الأشرف وأضرابه ‏{‏وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ‏}‏ من قبل القرآن ‏{‏مِن كتاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ‏}‏ خص اليمين لأن الكتابة غالباً تكون باليمين أي ما كنت قرأت كتاباً من الكتب ولا كنت كاتباً ‏{‏إِذَا‏}‏ أي لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة ومن الخط ‏{‏لارتاب المبطلون‏}‏ من أهل الكتاب وقالوا‏:‏ الذي نجد نعته في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا‏:‏ لعله تعلمه أو كتبه بيده‏.‏ وسماهم مبطلين لإنكارهم نبوته‏.‏ وعن مجاهد والشعبي‏:‏ ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ ‏{‏بَلْ هُوَ‏}‏ أي القرآن ‏{‏بينات فِى صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم وَمَا‏}‏ أي في صدور العلماء به وحفاظه وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز وكونه محفوظاً في الصدور بخلاف سائر الكتب فإنها لم تكن معجزات ولا كانت تقرأ إلا من المصاحف ‏{‏وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا‏}‏ الواضحة ‏{‏إِلاَّ الظالمون‏}‏ أي المتوغلون في الظلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 52‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايات مِّن رَّبِهِ‏}‏ ‏{‏آية‏}‏ بغير ألف‏:‏ مكي وكوفي غير حفص‏.‏ أرادوا هلا أنزل عليه آيات مثل الناقة والعصا ومائدة عيسى عليهم السلام ونحو ذلك ‏{‏قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله‏}‏ ينزل أيتها شاء ولست أملك شيئاً منها ‏{‏وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات وليس لي أن أقول أنزل على آية كذا دون آية كذا مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ‏}‏ أي أولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول كما تزول كل آية بعد كونها، أو تكون في مكان دون مكان ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر ‏{‏لَرَحْمَةً‏}‏ لنعمة عظيمة ‏{‏وذكرى‏}‏ وتذكرة ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ دون المتعنتين ‏{‏قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً‏}‏ أي شاهداً بصدق ما أدعيه من الرسالة وأنزل القرآن علي وبتكذيبكم ‏{‏يَعْلَمُ مَا فِى السماوات والأرض‏}‏ فهو مطلع على أمري وأمركم وعالم بحقي وباطلكم ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالباطل‏}‏ باليهودية أو بالشرك إو بإبليس ‏{‏وَكَفَرُواْ بالله‏}‏ وآياته ‏{‏أولئك هُمُ الخاسرون‏}‏ المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف كقوله ‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 24‏]‏ وروي أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا‏:‏ يا محمد من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 56‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏53‏)‏ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏54‏)‏ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏55‏)‏ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب‏}‏ بقولهم ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ الآية‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ وهو يوم القيامة أو يوم بدر أو وقت فنائهم بآجالهم، والمعنى ولولا أجل قد سماه الله وبينه في اللوح لعذبهم والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى ‏{‏لَّجَاءهُمُ العذاب‏}‏ عاجلاً ‏{‏وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ‏}‏ العذاب عاجلاً أو ليأتينهم العذاب في الأجل المسمى ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ فجأة ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بوقت مجيئه‏.‏

‏{‏يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين‏}‏ أي ستحيط بهم ‏{‏يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ‏}‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 16‏]‏ ولا وقف على ‏{‏بالكافرين‏}‏ لأن ‏{‏يوم‏}‏ ظرف إحاطة النار بهم ‏{‏وَيَقُولُ‏}‏ بالياء‏:‏ كوفي ونافع، وقوله ‏{‏ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي جزاء أعمالكم ‏{‏ياعبادى‏}‏ وبسكون الياء‏:‏ بصري وكوفي غير عاصم ‏{‏الذين ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ شامي يعني أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلباً وأصبح ديناً وأكثر عبادة، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كثيراً‏.‏ وقالوا‏:‏ لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني من مكة حرسها الله تعالى‏.‏ وعن سهل‏:‏ إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين‏.‏ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة» ‏{‏فَإِيَّاىَ فاعبدون‏}‏ وبالياء‏:‏ يعقوب‏.‏ وتقديره فإياي اعبدوا فاعبدوني‏.‏ وجيء بالفاء في ‏{‏فاعبدون‏}‏ لأنه جواب شرط محذوف لأن المعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها، ثم حذف الشرط وعوض عن حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص، ثم شجع المهاجر بقوله

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏58‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏59‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت‏}‏ أي واجدة مرارته وكربه كما يجد، الذائق طعم المذوق لأنها إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارق وطنها ‏{‏ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ‏}‏ بعد الموت للثواب والعقاب ‏{‏يرجعون‏}‏ يحيى ‏{‏ترجعون‏}‏ يعقوب‏.‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الجنة غُرَفَاً‏}‏ لننزلنهم من الجنة علالي‏.‏ ‏{‏لنثوينهم‏}‏ كوفي غير عاصم من الثواء وهو النزول للإقامة، وثوى غير متعد فإذا تعدى بزيادة الهمزة لم يجاوز مفعولاً واحداً‏.‏ والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف، أما إجراؤه مجرى لننزلنهم أو لنؤينهم، أو حذف الجار وإيصال الفعل، أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ العاملين‏}‏ ويوقف على ‏{‏العاملين‏}‏ على أن ‏{‏الذين صَبَرُواْ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين صبروا على مفارقة الأوطان وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي، والوصل أجود ليكون ‏{‏الذين‏}‏ نعتا ل ‏{‏العاملين‏}‏ ‏{‏وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم من مكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فنزلت ‏{‏وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ‏}‏ أي وكم من دابة ‏{‏وكائن‏}‏ بالمد والهمز‏:‏ مكي والدابة كل نفس دبت على وجه الأرض عقلت أم لم تعقل ‏{‏لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا‏}‏ لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله ‏{‏الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ‏}‏ أي لا يرزق تلك الدّواب الضعاف إلا الله، ولا يرزقكم أيضاً أيها الأقوياء إلا هو، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها لأنه لو لم يقدركم ولم يقدر لكم أسباب الكسب لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل‏.‏ وعن الحسن‏:‏ لا تحمل رزقها لا تدخره إنما تصبح فيرزقها الله‏.‏ وقيل‏:‏ لا يدخر شيء من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لقولكم نخشى الفقر والعيلة ‏{‏العليم‏}‏ بما في ضمائركم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏61‏)‏ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏62‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر‏}‏ أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من خلق السماوات والأرض على كبرهما وسعتهما، ومن الذي سخر الشمس والقمر ‏{‏لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ‏}‏ فكيف يصرفون عن توحيد الله مع إقرارهم بهذا كله‏!‏ ‏{‏الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ‏}‏ أي لمن يشاء فوضع الضمير موضع ‏{‏من يشاء‏}‏ لأن ‏{‏من يشاء‏}‏ مبهم غير معين فكان الضمير مبهماً مثله‏.‏ قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه ‏{‏إِنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم‏.‏ في الحديث «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك» ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ أي هم مقرون بذلك ‏{‏قُلِ الحمد لِلَّهِ‏}‏ على إنزاله الماء لإحياء الأرض أو على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفى الشركاء عنه ولم يكن إقراراً عاطلاً كإقرار المشركين ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ لا يتدبرون بما فيهم من العقول فيما نريهم من الآيات ونقيم عليهم من الدلالات، أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 66‏]‏

‏{‏وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏64‏)‏ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏65‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا هذه الحياة الدنيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ‏}‏ أي وما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون، وفيه ازدراء بالدنيا وتصغير لأمرها وكيف لا يصغرها وهي لاتزن عنده جناح بعوضة‏!‏ واللهو ما يتلذذ به الإنسان فيلهيه ساعة ثم ينقضي ‏{‏وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِىَ الحيوان‏}‏ أي الحياة أي ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة لا موت فيها فكأنها في ذاتها حياة‏.‏ والحيوان مصدر حي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واواً ولم يقل «لهي الحياة» لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب، والحياة حركة والموت سكون، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة مبالغة في معنى الحياة، ويوقف على ‏{‏الحيوان‏}‏ لأن التقدير ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ حقيقة الدارين لما اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي، ولو وصل لصار وصف الحيوان معلقاً بشرط علمهم ذلك وليس كذلك‏.‏

‏{‏فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك‏}‏ هو متصل بمحذوف دل عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم معناه‏:‏ هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك ‏{‏دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلاهاً آخر ‏{‏فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر‏}‏ وأمنوا ‏{‏إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ عادوا إلى حال الشرك ‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم‏}‏ من النعمة‏.‏ قيل‏:‏ هي لام كي وكذا في ‏{‏وَلِيَتَمَتَّعُواْ‏}‏ فيمن قرأها بالكسر أي لكي يكفروا وكي يتمتعوا، والمعنى يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النجاة قاصدين التمتيع بها والتلذذ لا غير على خلاف عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة لا إلى التلذذ والتمتع، وعلى هذا لا وقف على ‏{‏يشركون‏}‏‏.‏ ومن جعله لام الأمر متثبتاً بقراءة ابن كثير وحمزة وعلي ‏{‏وليتمتعوا‏}‏ بسكون اللام على وجه التهديد كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏ وتحقيقه في أصول الفقه يقف عليه ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ سوء تدبيرهم عند تدميرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 69‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏67‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ أي أهل مكة ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا‏}‏ بلدهم ‏{‏حَرَماً‏}‏ ممنوعاً مصوناً ‏{‏آمناً‏}‏ يأمن داخله ‏{‏وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏ يستلبون قتلاً وسبياً ‏{‏أفبالباطل يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي أبالشيطان والأصنام ‏{‏وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ‏}‏ أي بمحمد عليه السلام والإسلام ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ بأن جعل له شريكاً ‏{‏أَوْ كَذَّبَ بالحق‏}‏ بنبوة محمد عليه السلام والكتاب ‏{‏لَمَّا جَاءهُ‏}‏ أي لم يتلعثموا في تكذيبه حين سمعوه ‏{‏أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين‏}‏ هذا تقرير لثوائهم في جهنم لأن همزة الإنكار إذا أدخلت على النفي صار إيجاباً يعني ألا يثوون فيها وقد افتروا مثل هذا التكذيب على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب‏؟‏ أو ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حين اجترؤوا مثل هذه الجراءة‏؟‏ وذكر المثوى في مقابلة ‏{‏لنبوئنهم‏}‏ يؤيد قراءة الثاني ‏{‏والذين جاهدوا‏}‏ أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول ليتناول كل ما تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين ‏{‏فِينَا‏}‏ في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصاً ‏{‏لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏{‏سبلنا‏}‏ أبو عمرو أي لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً‏.‏ وعن الداراني‏:‏ والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا فقد قيل‏:‏ من عمل بما علم وفق لما لا يعلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم إنما هو لتقصيرنا فيما نعلم‏.‏ وعن فضيل‏:‏ والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به‏.‏ وعن سهل‏:‏ والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة‏.‏ وعن ابن عطاء‏:‏ جاهدوا في رضانا لنهدينهم الوصول إلى محل الرضوان‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا‏.‏ وعن الجنيد‏:‏ جاهدوا في التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، أو جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا، أو جاهدوا في طلبنا تحرياً لرضانا لنهدينهم سبل الوصول إلينا‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين‏}‏ بالنصرة والمعونة في الدنيا وبالثواب والمغفرة في العقبى‏.‏

سورة الروم

مكية وهي ستون أوتسع وخمسون آية والاختلاف في بضع سنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ غُلِبَتِ الرُّومُ ‏(‏2‏)‏ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ‏(‏3‏)‏ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏الم غُلِبَتِ الروم‏}‏ أي غلبت فارس الروم ‏{‏فِى أَدْنَى الأرض‏}‏ أي في أقرب أرض العرب لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم، والمعنى غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام، أو أراد أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي الروم ‏{‏مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ‏}‏ أي غلبة فارس إياهم‏.‏ وقرئ بسكون اللام فالغلب والغلب مصدران وقد أضيف المصدر إلى المفعول ‏{‏سَيَغْلِبُونَ‏}‏ فارس، ولا وقف عليه لتعلق ‏{‏فِى بِضْعِ سِنِينَ‏}‏ به، وهو ما بين الثلاث إلى العشرة‏.‏ قيل‏:‏ احتربت فارس والروم بين أذرعات وبصرى فغلبت فارس الروم والملك بفارس يومئذ كسرى ابرويز فبلغ الخبر مكة فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل كتاب، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا‏:‏ أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن نحن عليكم فنزلت‏.‏ فقال لهم أبو بكر‏:‏ والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أبيّ بن خلف‏:‏ كذبت فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام «زد في الخطر وأبعد في الأجل» فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين‏.‏ ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية أو يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ فقال عليه السلام‏:‏ «تصدق به» وهذه آية بينة على صحة نبوته وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب وكان ذلك قبل تحريم القمار‏.‏ عن قتادة ومن مذهب أبي حنيفة ومحمد أن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره جائزة في دار الحرب بين المسلمين وقد احتجا على صحة ذلك بهذه القصة‏.‏

‏{‏لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ‏}‏ أي من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء أو حين غلبوا وحين يغلبون كأنه قيل‏:‏ من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين، ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين يعني أن كونهم مغلوبين أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمر الله وقضائه ‏{‏وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏ ‏{‏وَيَوْمَئِذٍ‏}‏ ويوم تغلب الروم على فارس ويحل ما وعد الله من غلبتهم ‏{‏يَفْرَحُ المؤمنون بنصر الله‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له وغيظ من شمت بهم من كفار مكة‏.‏ وقيل‏:‏ نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم، والباء يتصل ب ‏{‏يفرح‏}‏ فيوقف على ‏{‏الله‏}‏ على «المؤمنين» ‏{‏ينصُر مَنْ يشاء وهو العزيز‏}‏ الغالب على أعدائه ‏{‏الرحيم‏}‏ العاطف على أوليائه ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ مصدر مؤكد لأن قوله ‏{‏وهم من بعد غلبهم سيغلبون‏}‏ وعد من الله للمؤمنين، فقوله ‏{‏وعد الله‏}‏ بمنزلة وعد الله المؤمنين وعداً ‏{‏لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ‏}‏ بنصر الروم على فارس ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ بدل من ‏{‏لا يعلمون‏}‏ وفيه بيان أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز عن تحصيل الدنيا‏.‏ وقوله ‏{‏ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا‏}‏ يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها، وباطنها أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها إليها بالطاعة وبالأعمال الصالحة‏.‏ وتنكير الظاهر يفيد أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها ‏{‏وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غافلون‏}‏ ‏{‏هم‏}‏ الثانية مبتدأ و‏{‏غافلون‏}‏ خبره والجملة خبر ‏{‏هم‏}‏ الأولى، وفيه بيان أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرها‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ يحتمل أن يكون ظرفاً كأنه قيل‏:‏ أولم يثبتوا التفكير في أنفسهم أي في قلوبهم الفارغة من الفكر والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقوله «اعتقده في قلبك»، وأن يكون صلة للتفكر نحو تفكر في الأمر وأجال فيه فكره، ومعناه على هذا‏:‏ أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات وهم أعلم بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فيتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكمة الدالة على التدبير دون الإهمال، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت تجازى فيه على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جارٍ على الحكمة في التدبير، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت‏؟‏ ‏{‏مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ متعلق بالقول المحذوف معناه‏:‏ أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول‏؟‏ وقيل‏:‏ معناه فيعلموا لأن في الكلام دليلاً عليه ‏{‏إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًى‏}‏ أي ما خلقها باطلاً وعبثاً بغير حكمة بالغة ولا لتبقى خالدة، إنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة وبتقدير أجلٍ مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب، ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً ‏{‏وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس بِلِقَاء رَبّهِمْ‏}‏ بالبعث والجزاء ‏{‏لكافرون‏}‏ لجاحدون‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي لكافرون بلقاء ربهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ هو تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية‏.‏ ثم وصف حالهم فقال ‏{‏كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض‏}‏ وحرثوها ‏{‏وَعَمَرُوهَا‏}‏ أي المدمرون ‏{‏أَكْثَرَ‏}‏ صفة مصدر محذوف‏.‏ و«ما» مصدرية في ‏{‏مِمَّا عَمَرُوهَا‏}‏ أي من عمارة أهل مكة ‏{‏وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ وتقف عليها لحق الحذف أي فلم يؤمنوا فأهلكوا ‏{‏فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ‏}‏ فما كان تدميره إياهم ظلماً لهم ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم ‏{‏ثُمَّ كَانَ عاقبة‏}‏ بالنصب‏:‏ شامي وكوفي ‏{‏الذين أَسَآوُاْ السوأى‏}‏ تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، ومحلها رفع على أنها اسم «كان» عند من نصب ‏{‏عاقبة‏}‏ على الخبر ونصب عند من رفعها، والمعنى أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم كانت عاقبتهم السوأى، إلا أنه وضع المظهر وهو ‏{‏الذين أساؤوا‏}‏ موضع المضمر أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي النار التي أعدت للكافرين ‏{‏أَن كَذَّبُواْ‏}‏ لأن كذبوا أو بأن وهو يدل على أن معنى أساؤوا كفروا ‏{‏بآيات الله وكانوا بها يستهزئون‏}‏ يعني ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 17‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏13‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏16‏)‏ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَبْدَأُ الخلق‏}‏ ينشئهم ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ يحييهم بعد الموت ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ وبالياء‏:‏ أبو عمرو وسهل‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ‏}‏ ييأس ويتحير‏.‏ يقال‏:‏ ناظرته فأبلس إذا لم ينبس ويئس من أن يحتج ‏{‏المجرمون‏}‏ المشركون ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ‏}‏ من الذين عبدوهم من دون الله‏.‏ وكتب ‏{‏شُفَعَاؤا‏}‏ في المصحف بواو قبل الألف كما كتب ‏{‏علمؤا بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 197‏]‏ وكذلك كتبت السوأى بالألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها ‏{‏وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كافرين‏}‏ أي يكفرون بآلهتهم ويجحدونها أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ‏}‏ الضمير في ‏{‏يتفرقون‏}‏ للمسلمين والكافرين لدلالة ما بعده عليه حيث قال ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ‏}‏ أي بستان وهي الجنة، والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه ‏{‏يُحْبَرُونَ‏}‏ يسرون‏.‏ يقال‏:‏ حبره إذا سره سروراً تهلل له وجهه وظهر فيه أثره، ثم اختلف فيه لاحتمال وجوه المسار فقيل يكرمون، وقيل يحلون، وقيل هو السماء في الجنة ‏{‏وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا وَلِقَاء الآخرة‏}‏ أي البعث ‏{‏فَأُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ‏}‏ مقيمون لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 167‏]‏ لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد فقال ‏{‏فَسُبْحَانَ الله‏}‏ والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعمة الله الظاهرة أو الصلاة، فقيل لابن عباس‏:‏ هل تجد الصلوات الخمس في القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ نعم وتلا هذه الآية‏.‏ وهو نصب على المصدر والمعنى نزهوه عما لا يليق به أوصلوا لله ‏{‏حِينَ تُمْسُونَ‏}‏ صلاة المغرب والعشاء ‏{‏وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏ صلاة الفجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ‏(‏18‏)‏ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏19‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُ الحمد فِى السماوات والأرض‏}‏ اعتراض ومعناه أن على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه، و‏{‏في السماوات‏}‏ حال من ‏{‏الحمد‏}‏ ‏{‏وَعَشِيّاً‏}‏ صلاة العصر وهو معطوف على ‏{‏حين تمسون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏عشياً‏}‏ متصل بقوله‏:‏ ‏{‏حين تمسون‏}‏ ‏{‏وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏ صلاة الظهر أظهر أي‏:‏ دخل في وقت الظهيرة والقول الأكثر أن الصلوات الخمس فرضت بمكة ‏{‏يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت‏}‏ الطائر من البيضة أو الإِنسان من النطفة أو المؤمن من الكافر ‏{‏وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي‏}‏ أي‏:‏ البيضة من الطائر أو النطفة من الإِنسان أو الكافر من المؤمن، و‏{‏الميت‏}‏ بالتخفيف فيهما مكي وشامي وأبو عمرو وأبو بكر وحماد، وبالتشديد غيرهم ‏{‏وَيحي الأرض‏}‏ بالنبات ‏{‏بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ يبسها ‏{‏وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ‏}‏ ‏{‏تخرجون‏}‏ حمزة وعلي وخلف، أي‏:‏ ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم‏.‏ والكاف في محل النصب ب ‏{‏تخرجون‏}‏، والمعنى أن الإبداء والإعادة يتساويان في قدرة من هو قادر على إخراج الميت من الحي وعكسه، روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من قرأ فسبحان الله حين تمسون إلى الثلاث وأخر سورة والصافات دبر كل صلاة كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء وقطر الأمطار وورق الأشجار وتراب الأرض، فإذا مات أجري له بكل حرف عشر حسنات في قبره» قال عليه السلام‏:‏ «من قرأ حين يصبح ‏{‏فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏}‏ إلى قوله ‏{‏وكذلك تخرجون‏}‏ أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» ومن آياته ومن علامات ربوبيته وقدرته ‏{‏أَنْ خَلَقَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أباكم ‏{‏مّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ‏}‏ أي‏:‏ آدم وذريته ‏{‏تَنتَشِرُونَ‏}‏ تنصرفون فيما فيه معاشكم و‏{‏إذا‏}‏ للمفاجأة وتقديره‏:‏ ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ‏(‏22‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا‏}‏ أي حواء خلقت من ضلع آدم عليه السلام والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال، أو من شكل أنفسكم وجنسها لا من جنس آخر وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون وما بين الجنسين المختلفين من التنافر‏.‏ يقال‏:‏ سكن إليه إذا مال إليه ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً‏}‏ أي جعل بينكم التواد والتراحم بسبب الزواج‏.‏ وعن الحسن‏:‏ المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد‏.‏ وقيل‏:‏ المودة للشابة والرحمة للعجوز‏.‏ وقيل‏:‏ المودة والرحمة من الله والفرك من الشيطان أي بغض المرأة زوجها وبغض الزوج المرأة ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ فيعلمون أن قوام الدنيا بوجود التناسل ‏{‏وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ‏}‏ أي اللغات أو أجناس النطق وأشكاله ‏{‏وألوانكم‏}‏ كالسواد والبياض وغيرهما، ولاختلاف ذلك وقع التعارف وإلا فلو تشاكلت واتفقت لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت المصالح، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله متفاوتون‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات للعالمين‏}‏ ‏{‏للعالمين‏}‏ جمع «عالَم»، وبكسر اللام‏:‏ حفص عالِم ويشهد للكسر قوله تعالى ‏{‏وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون‏}‏ العنكبوت‏:‏ 43‏)‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ‏}‏ هذا من باب اللف، وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الآخرين، أو المراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما، والجمهور على الأول لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دل عليه القرآن ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي يسمعون سماع تدبر بآذان واعية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق‏}‏ في ‏{‏يريكم‏}‏ وجهان‏:‏ إضمار أن كما في حرف ابن مسعود رضي الله عنه وإنزال الفعل منزلة المصدر وبهما فسر المثل «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» أي أن تسمع أو سماعك ‏{‏خَوْفًا‏}‏ من الصاعقة أو من الإخلاف ‏{‏وَطَمَعًا‏}‏ في الغيث أو خوفاً للمسافر وطمعاً للحاضر، وهما منصوبان على المفعول له على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي إرادة خوف وإرادة طمع، أو على الحال أي خائفين وطامعين ‏{‏وَيُنَزّلُ مِنَ السماء‏}‏ وبالتخفيف‏:‏ مكي وبصري ‏{‏ماءً‏}‏ مطراً ‏{‏فيحي به الأَرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ يتفكرون بعقولهم ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ‏}‏ تثبت بلا عمد ‏{‏السماء والأرض بِأَمْرِهِ‏}‏ أي بإقامته وتدبيره وحكمته ‏{‏ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ‏}‏ للبعث ‏{‏دَعْوَةً مّنَ الأرض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ‏}‏ من قبوركم هذا كقوله ‏{‏يريكم‏}‏ في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال‏:‏ ومن آياته قيام السماوات والأرض واستمساكها بغير عمد، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة يا أهل القبور أخرجوا، والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف‏.‏ وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض ب «ثم» بياناً لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله وهو أن يقول‏:‏ يا أهل القبور قوموا فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ و«إذا» الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط ‏{‏ومن الأرض‏}‏ متعلق بالفعل لا بالمصدر‏.‏ وقولك «دعوته من مكان كذا» يجوز أن يكون مكانك ويجوز أن يكون مكان صاحبك

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏26‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُ مَن فِى السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قانتون‏}‏ منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه أو مقرون بالعبودية‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى يَبْدَأُ الخلق‏}‏ أي ينشئهم ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ للبعث ‏{‏وَهُوَ‏}‏ أي البعث ‏{‏أَهْوَنُ‏}‏ أيسر ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ عندكم لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء فلم أنكرتم الإعادة، وأخرت الصلة في قوله ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏ وقدمت في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ عَليَّ هَيّنٌ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 9‏]‏ لقصد الاختصاص هناك، وأما هنا فلا معنى للاختصاص‏.‏ وقال أبو عبيدة والزجاج وغيرهما الأهون بمعنى الهين فيوصف به الله عز وجل وكان ذلك على الله يسيراً كما قالوا‏:‏ الله أكبر أي كبير، والإعادة في نفسها عظيمة ولكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء، أو هو أهون على الخلق من الإنشاء لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفاً ثم علقاً ثم مضغ إلى تكميل خلقهم ‏{‏وَلَهُ المثل الأعلى فِى السماوات والأرض‏}‏ أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره وقد عرف به ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات ويدل عليه قوله ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ أي القاهر لكل مقدور ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ المثل الأعلى ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ وَهُوَ السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ هو قول لا إله إلا الله‏.‏ ومعناه وله الوصف الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية ويعضده قوله ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ فهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن جعل له شريكاً من خلقه‏.‏ و«من» للابتداء كأنه قال‏:‏ أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم ‏{‏هَلْ لَّكُمْ‏}‏ معاشر الأحرار ‏{‏مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ عبيدكم و«من» للتبعيض ‏{‏مّن شُرَكَاء‏}‏ «من» مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي ومعناه‏:‏ هل ترضون لأنفسكم وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد أن يشارككم بعضهم ‏{‏فِى مَا رزقناكم‏}‏ من الأموال وغيرها ‏{‏فَأَنتُمْ‏}‏ معاشر الأحرار والعبيد ‏{‏فِيهِ‏}‏ في ذلك الرزق ‏{‏سَوَآء‏}‏ من غير تفصلة بين حر وعبد يحكم مماليككم في أموالكم كحكمكم ‏{‏تَخَافُونَهُمْ‏}‏ حال من ضمير الفاعل في سواء أي متساوون خائفاً بعضكم بعضاً مشاركته في المال، والمعنى‏:‏ تخافون معاشرة السادة عبيدكم فيها فلا تمضون فيها حكماً دون إذنهم خوفاً من لائمة تلحقكم من جهتهم ‏{‏كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ يعني كما يخاف بعض الأحرار بعضاً فيما هو مشترك بينهم، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء‏؟‏ ‏{‏كذلك‏}‏ موضع الكاف نصب أي مثل هذا التفصيل ‏{‏نُفَصّلُ الآيات‏}‏ نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها ‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ يتدبرون في ضرب الأمثال فلما لم ينزجروا أضرب عنهم فقال

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أنفسهم بما أشركوا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ أي اتبعوا أهواءهم جاهلين ‏{‏فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله‏}‏ أي أضله الله تعالى ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ من العذاب‏.‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ‏}‏ فقوم وجهك له وعد له غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه واهتمامه بأسبابه، فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه وسدد إليه نظره وقوم له وجهه ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ حال عن المأمور أو من الدين ‏{‏فِطْرَةَ الله‏}‏ أي الزموا فطرة الله والفطرة الخلقة، ألا ترى إلى قوله ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ فالمعنى أنه خلقهم قابلين للتوحيد والإسلام غير نائين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوباً للعقل مساوقاً للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الجن والإنس ومنه قوله عليه السلام «كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري» وقوله عليه السلام «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» وقال الزجاج‏:‏ معناه أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به على ما جاء في الحديث «إن الله عز وجل آخرج من صلب آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم» فقال ‏{‏وإذ أخذ ربك‏}‏ إلى قوله ‏{‏قَالُواْ بلى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ وكل مولود هو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى خالقها‏.‏ فمعنى فطرة الله دين الله ‏{‏التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا‏}‏ أي خلق ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏ أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه لا تبديل لدين الله ويدل عليه ما بعده وهو قوله ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ أي المستقيم ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ حقيقة ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏31‏)‏ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ راجعين إليه وهو حال من الضمير في «الزموا»، وقوله ‏{‏واتقوه‏}‏ و‏{‏أقيموا‏}‏ و‏{‏لا تكونوا‏}‏ معطوف على هذا المضمر، أو من قوله ‏{‏فأقم وجهك‏}‏ لأن الأمر له عليه السلام أمر لأمته فكأنه قال‏:‏ فأقيموا وجوهكم منيبين إليه، أو التقدير كونوا منبيين دليله قوله ‏{‏ولا تكونوا‏}‏ ‏{‏واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة‏}‏ أي أدوها في أوقاتها ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين‏}‏ ممن يشرك به غيره في العبادة ‏{‏مِنَ الذين‏}‏ بدل من ‏{‏المشركين‏}‏ بإعادة الجار ‏{‏فَرَّقُواْ دِينَهُمْ‏}‏ جعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم ‏{‏فارقوا‏}‏ حمزة وعلي وهي قراءة علي رضي الله عنه أي تركوا دين الإسلام ‏{‏وَكَانُواْ شِيَعاً‏}‏ فرقاً كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ‏}‏ منهم ‏{‏بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ فرح بمذهبه مسرور يحسب باطله حقاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 37‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ‏(‏35‏)‏ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ‏(‏36‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ‏}‏ شدة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك ‏{‏دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً‏}‏ أي خلاصاً من الشدة ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ في العبادة ‏{‏لِيَكْفُرُواْ‏}‏ هذه لام كي‏.‏ وقيل‏:‏ لام الأمر للوعيد ‏{‏بِمَآ آتيناهم‏}‏ من النعم ‏{‏فَتَمَتَّعُواْ‏}‏ بكفركم قليلاً أمر وعيد ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وبال تمتعكم ‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا‏}‏ حجة ‏{‏فَهُوَ يَتَكَلَّمُ‏}‏ وتكلمه مجاز كما تقول «كتابه ناطق بكذا» وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه الشهادة كأنه قال‏:‏ فهو يشهد بشركهم وبصحته ‏{‏بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ «ما» مصدرية أي بكونهم بالله يشركون، أو موصولة ويرجع الضمير إليها أي فهو يتكلم بالأمر الذي بسببه يشركون، أو معنى الآية أم أنزلنا عليهم ذا سلطان أي ملكاً معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً‏}‏ أي نعمة من مطر أوسعة أوصحة ‏{‏فَرِحُواْ بِهَا‏}‏ بطروا بسببها ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ أي بلاء من جدب أو ضيق أو مرض ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ بسبب شؤم معاصيهم ‏{‏إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ من الرحمة و‏{‏إذا‏}‏ لمفاجأة جواب الشرط نابت عن الفاء لتآخيهما في التعقيب‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أنكر عليهم بأنهم قد علموا بأنه القابض الباسط فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين عن المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها حتى يعيد إليهم رحمته‏!‏ ولما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك فقال

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏فَئآتِ ذَا القربى‏}‏ أعط قريبك ‏{‏حَقَّهُ‏}‏ من البر والصلة ‏{‏والمساكين وابن السبيل‏}‏ نصيبهما من الصدقة المسماة لهما، وفيه دليل وجوب النفقة للمحارم كما هو مذهبنا ‏{‏ذلك‏}‏ أي إيتاء حقوقهم ‏{‏خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله‏}‏ أي ذاته أي يقصدون بمعروفهم أياه خالصاً ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس‏}‏ يريد وما أعطيتم أكلة الربا من رباً ليربوا في أموالهم ‏{‏فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله‏}‏ فلا يزكوا عند الله ولا يبارك فيه‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الربا الحلال أي وما تعطونه من الهدية لتأخذوا أكثر منها فلا يربوا عند الله لأنكم لم تريدوا بذلك وجه الله ‏{‏وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن زكواة‏}‏ صدقة ‏{‏تُرِيدُونَ وَجْهَ الله‏}‏ تبتغون به وجهه خالصاً لا تطلبون به مكافأة ولا رياء ولا سمعة ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون‏}‏ ذوو الإضعاف من الحسنات ونظير المضعف المقوى والموسر لذي القوة واليسار‏.‏ ‏{‏أتيتم من ربا‏}‏ بلامد‏:‏ مكي أي وما غشيتموه من إعطاء ربا ‏{‏لتربوا‏}‏ مدني أي لتزيدوا في أموالهم‏.‏ وقوله ‏{‏فأولئك هم المضعفون‏}‏ التفات حسن لأنه يفيد التعميم كأنه قيل‏:‏ من فعل هذا فسبيله سبيل المخاطبين‏.‏ والمعنى المضعفون به لأنه لا بد له من ضمير يرجع إلى «ما» الموصولة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ في قوله ‏{‏فأولئك هم المضعفون‏}‏ أي فأهلها هم المضعفون أي هم الذي يضاعف لهم الثواب يعطون بالحسنة عشر أمثالها‏.‏

ثم أشار إلى عجز آلهتهم فقال

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏40‏)‏ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ‏(‏42‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى خَلَقَكُمْ‏}‏ مبتدأ وخبر ‏{‏ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هو المختص بالخلق والرزق والإماتة والإحياء ‏{‏هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أصنامكم التي زعمتم أنهم شركاء لله ‏{‏مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من الخلق والرزق والإماتة والإحياء ‏{‏مِن شَئ‏}‏ أي‏:‏ شيئاً من تلك الأفعال فلم يجيبوا عجزاً فقال استبعاداً‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ و«من» الأولى الثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم‏.‏

‏{‏ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر‏}‏ نحو القحط وقلة الأمطار والريع في الزراعات والربح في التجارات ووقوع الموتان في الناس والدواب وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات من كل شيء ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس‏}‏ بسبب معاصيهم وشركهم كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ‏}‏ أي‏:‏ ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة وبالنون عن قنبل ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ عما هم عليه من المعاصي ثم أكد تسبيب المعاصي لغضب الله ونكاله بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ‏}‏ حيث أمرهم بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعصايهم‏.‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم‏}‏ البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ‏}‏ هو مصدر بمعنى الرد ‏{‏مِنَ الله‏}‏ يتعلق بيأتي، والمعنى‏:‏ من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 40‏]‏ أو بمرد على معنى لا يرده هو بعد أن يجيء به ولا رد له من جهته ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ‏}‏ يتصدعون أي‏:‏ يتفرقون ثم أشار إلى غناه عنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ‏(‏44‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ‏}‏ أي وبال كفره ‏{‏وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ‏}‏ أي يسوون لأنفسهم ما يسويه لنفسه الذي يمهد لنفسه فراشه ويوطئه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه مرقده من نتوء وغيره، والمعنى أنه يمهد لهم الجنة بسبب أعمالهم فأضيف إليهم‏.‏ وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تجاوزه‏.‏ ليجزى متعلق ب ‏{‏يمهدون‏}‏ تعليل له وتكرير ‏{‏الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن ‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي عطائه‏.‏ وقوله ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس ‏{‏وَمِنْ ءاياته‏}‏ أي ومن آيات قدرته ‏{‏أَن يُرْسِلَ الرياح‏}‏ هي الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة، وأما الدبور فريح العذاب ومنه قوله عليه السلام «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» وقد عدد الفوائد في إرسالها فقال ‏{‏مبشرات‏}‏ أي أرسلها للبشارة بالغيث ‏{‏وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ ولإذاقة الرحمة وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض وغير ذلك‏.‏ ‏{‏وليذيقكم‏}‏ معطوف على ‏{‏مبشرات‏}‏ على المعنى كأنه قيل‏:‏ ليبشركم وليذيقكم ‏{‏وَلِتَجْرِىَ الفلك‏}‏ في البحر عند هبوبها ‏{‏بِأَمْرِهِ‏}‏ أي بتدبيره أو بتكوينه كقوله ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ الآية‏.‏ ‏{‏وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ يريد تجارة البحر ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ولتشكروا نعمة الله فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ‏(‏49‏)‏ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بالبينات‏}‏ أي فآمن بهم قوم وكفر بهم قوم، ويدل على هذا الإضمار قوله ‏{‏فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ‏}‏ أي كفروا بالإهلاك في الدنيا ‏{‏وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين‏}‏ أي وكان نصر المؤمنين حقاً علينا بإنجائهم مع الرسل‏.‏ وقد يوقف على ‏{‏حقاً‏}‏ ومعناه وكان الانتقام منهم حقاً ثم يبدأ ‏{‏علينا نصر المؤمنين‏}‏ والأول أصح ‏{‏الله الذى يُرْسِلُ الرياح‏}‏ ‏{‏الريح‏}‏ مكي ‏{‏فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ‏}‏ أي السحاب ‏{‏فِى السماء‏}‏ أي في سمت السماء وشقها كقوله ‏{‏وَفَرْعُهَا فِى السماء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏كَيْفَ يَشَاء‏}‏ من ناحية الشمال أو الجنوب أو الدبور أو الصبا ‏{‏وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً‏}‏ قطعاً جمع كسفة أي يجعله منبسطاً يأخذ وجه السماء مرة ويجعله قطعاً متفرقة غير منبسطة مرة‏.‏ ‏{‏كسفا‏}‏ يزيد وابن ذكوان ‏{‏فَتَرَى الودق‏}‏ المطر ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ في التارتين جميعاً ‏{‏مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏ وسطه ‏{‏فَإِذَا أَصَابَ بِهِ‏}‏ بالودق ‏{‏مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ يريد إصابة بلادهم وأراضيهم ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ يفرحون‏.‏

‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ‏}‏ المطر ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ كرر للتأكيد كقوله‏:‏ ‏{‏فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 17‏]‏ ومعنى التوكيد فيها الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم بأسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك ‏{‏لَمُبْلِسِينَ‏}‏ آيسين ‏{‏فانظر إلى ءاثار‏}‏ شامي وكوفي غير أبي بكر‏.‏ وغيرهم ‏{‏أَثَرِ‏}‏ ‏{‏رَّحْمَةِ الله‏}‏ أي المطر ‏{‏كَيْفَ يُحْيىِ الأرض‏}‏ بالنبات وأنواع الثمار ‏{‏بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ‏}‏ أي الله ‏{‏لمحيي الموتى‏}‏ يعني أن ذلك القادر الذي يحيي الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الناس بعد موتهم، فهذا استدلال بإحياء الموات على إحياء الأموات ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ أي وهو على كل شيء من المقدورات قادر وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏ فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا‏}‏ أي الدبور ‏{‏فَرَأَوْهُ‏}‏ أي أثر رحمة الله لأن رحمة الله هي الغيث وأثرها النبات‏.‏ ومن قرأ بالجمع رجع الضمير إلى معناه لأن معنى آثار الرحمة النبات واسم النبات يقع على القليل والكثير لأنه مصدر سمي به ما ينبت ‏{‏مُصْفَرّاً‏}‏ بعد إخضراره‏.‏ وقال ‏{‏مصفرا‏}‏ لأن تلك صفرة حادثة‏.‏ وقيل‏:‏ فرأوا السحاب مصفراً لأن السحاب الأصفر لا يمطر‏.‏ واللام في ‏{‏لئن‏}‏ موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط، وسد مسد جوابي القسم والشرط ‏{‏لَّظَلُّواْ‏}‏ ومعناه ليظلن ‏{‏مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ‏}‏ أي من بعد اصفراره أو من بعد الاستبشار، ذمهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم المطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر استبشروا، فإذا أرسل ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ضجوا وكفروا بنعمة الله فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله فقنطوا، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ففرحوا، وأن يصبروا على بلائه فكفروا‏.‏ ‏{‏فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ أي موتى القلوب أو هؤلاء في حكم الموتى فلا تطمع أن يقبلوا منك ‏{‏وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء‏}‏ ‏{‏ولا يسمع الصم‏}‏ مكي ‏{‏إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏ فإن قلت‏:‏ الأصم لا يسمع مقبلاً أو مدبراً، فما فائدة هذا التخصيص‏؟‏ قلت‏:‏ هو إذا كان مقبلاً يفهم بالرمز بالإشارة فإذا ولى لا يسمع ولا يفهم بالإشارة ‏{‏وَمَا أَنتَ بِهَادِ العمى‏}‏ أي عمى القلوب، ‏{‏وما أنت تهدى العمي‏}‏ حمزة ‏{‏عَن ضلالتهم‏}‏ أي لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى طريق قد ضل عنه بإشارة منك له إليه ‏{‏إِن تُسْمِعُ‏}‏ ما تسمع ‏{‏إلاَّ مَنْ يُؤمن بآياتنا فهم مسلمون‏}‏ منقادون لأوامر الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ‏(‏54‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ‏(‏55‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ‏}‏ من النطف كقوله ‏{‏مّن مَّاء مَّهِينٍ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ‏}‏ يعني حال الشباب وبلوغ الأشد ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً‏}‏ يعني حال الشيخوخة والهرم ‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ من ضعف وقوة وشباب وشيبة ‏{‏وَهُوَ العليم‏}‏ بأحوالهم ‏{‏القدير‏}‏ على تغييرهم وهذا الترديد في الأحوال أبين دليل على الصانع العليم القدير‏.‏ فتح الضاد في الكل‏:‏ عاصم وحمزة، وضم غيرهما وهو اختيار حفص، وهما لغتان والضم أقوى في القراءة لما روي عن ابن عمر قال‏:‏ قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏من ضَعف‏}‏ فأقرأني ‏{‏من ضُعفٍ‏}‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة‏}‏ أي القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة كما تقول في ساعة لمن تستعجله وجرت علماً لها كالنجم للثريا ‏{‏يُقْسِمُ المجرمون‏}‏ يحلف الكافرون، ولا وقف عليه لأن ‏{‏مَا لَبِثُواْ‏}‏ في القبور أو في الدنيا ‏{‏غَيْرَ سَاعَةٍ‏}‏ جواب القسم استقلوا مدة لبثهم في القبور أو في الدنيا لهول يوم القيامة وطول مقامهم في شدائدها أو ينسون أو يكذبون ‏{‏كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ‏}‏ أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق إلى الكذب في الدنيا ويقولون ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان‏}‏ هم الأنبياء والملائكة والمؤمنون ‏{‏لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله‏}‏ في علم الله المثبت في اللوح أو في حكم الله وقضائه ‏{‏إلى يَوْمِ البعث‏}‏ ردوا ما قالوه وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم ‏{‏فهذا يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه‏.‏ والفاء لجواب شرط يدل عليه الكلام تقديره‏:‏ إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث الذي أنكرتموه

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏57‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏59‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ‏}‏ بالياء‏:‏ كوفي ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ كفروا ‏{‏مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ عذرهم ‏{‏وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ أي لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة من قولك «استعتبني فلان فأعتبته» أي استرضاني فأرضيته ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ‏}‏ أي ولقد وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وقصتهم وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا جئتنا بزور باطل ‏{‏كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي مثل ذلك الطبع وهو الختم يطبع الله على قلوب الجهلة الذين علم الله منهم اختيار الضلال حتى يسموا المحقين مبطلين وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة ‏{‏فاصبر‏}‏ على أذاهم أو عداوتهم ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بنصرتك على أعدائك وإظهار دين الإسلام على كل دين ‏{‏حَقّ‏}‏ لا بد من إنجازه والوفاء به ‏{‏وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ أي لا يحملنك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفة والعجلة في الدعاء عليهم بالعذاب، أو لا يحملنك على الخفة والقلق جزعاً مما يقولون ويفعلون فإنهم ضلال شاكون لا يستبدع منهم ذلك ‏{‏ولا يستخفنك‏}‏ بسكون النون عن يعقوب، والله الموفق للصواب‏.‏